منذ أن وقع الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الكبري في 14 يوليو الماضي ، وثمة دينامية أطلقت في عدد من الاتجاهات، بعضها متعارض مع البعض الآخر، كان السؤال ولا يزال هل تغير إيران من سياستها العامة تجاه المنطقة والخليج العربي، أم هي سوف تزداد تعنتا وتدخلا في الشأن العربي؟
الإجابة علي ذلك السؤال ليست سهلة ، فهي تحتمل نعم ولا معا، بل تحتمل الأكثر سوءا من ذلك، مازال التوقيع النهائي علي الاتفاق يحمل احتمالات عديدة، وهي احتمالات لا تبقي فقط مرهونة برأي الكونجرس الأمريكي ولكنها أيضا تبقي في كنف التجاذب الإيراني بين متشددين وبين إصلاحيين، والذي ينتظر الإفصاح عنه في البرلمان الإيراني.
علي ما في المصطلح من رخاوة.. استمرت إيران فترة طويلة في التفاوض علي الملف النووي، وكان ذلك التفاوض منطلقا ليس حرصا علي الحصول علي أسلحة نووية، بل الحرص الأكبر علي الحصول علي الاعتراف بالنظام الإيراني، هناك عقدة لدي النظام قابعة منذ أكثر من نصف قرن، عندما تدخلت الولايات المتحدة للإطاحة بنظام محمد مصدق الوطني عام 1952، وهي عقدة فيها الكثير من التصور غير الواقعي، لأنه ثبت في السنوات الأخيرة بعد الإفراج عن بعض الوثائق الأمريكية أن التدخل الأمريكي/ البريطاني ضد حكومة مصدق وقتها قد فشل وهرب الشاه محمد رضا بهلوي إلي الخارج.
من أفشل حكومة مصدق هم للعجب رجال الدين الايرانيون الذين اعتقدوا ان مصدق سوف يأتي بحزب تودة ( الحزب الماركسي) الي شراكة في الحكم. علي كل حال النظام الحالي يستفيد من ذلك ( التخويف) من الاطاحة به ويرغب جاهدا ان يحصل علي بوليصة تأمين، وقد حصل عليها، رغم قناعة كثيرين ،ومنهم شريحة واسعة من الشعوب الايرانية، ان مثل هذا النظام (الثيوقراطي) هو خارج مسيرة التاريخ، وبالتالي لا يمكن ان يبقي طويلا. لهذا السبب الاول الذي جعل من النظام الايراني يطلب حثيثا الاعتراف الدولي، والسبب الآخر أن العقيدة الاثنا عشرية (العقيدة الشيعية في إيران) كانت تاريخيا تتجنب الإمساك بالحكم، بل وفي صلبها ان تترك الحكم الزمني لآخرين، وتهتم هي فقط بشؤون الناس الروحية، وقد وصلت الي ذلك الاقتناع بعد الكثير من الصراع التاريخي مع السلطات الزمنية.
ما حصل أن السيد روح الله الخميني عكس الاتجاه، رغم أنه كان في السابق يعتقد بفصل الولايات الدنية عن الولاية الزمنية، وبسبب صراع طويل مع الشاه محمد رضا حول التحديث في المجتمع الايراني عكس آية الله الخميني رأيه، وقال بولاية الفقيه ،ويعني ذلك فيما يعني (الثورة الدائمة) ولان النظام لا يستطيع ان يثور علي نفسه، فقد قرر ان تكون هناك (ثورة للمستضعفين) في الجوار، وتحت تلك الراية والتي اختلط فيها الكثير من السياسة، تم التمدد الايراني في كل من لبنان والعراق وسوريا واليمن الي درجة التفاخر مؤخرا اننا (الايرانيون) نحتل (اربع عواصم عربية)!!
ذلك السنروم السياسي/ المذهبي هو الذي يمنع ايران الاسلامية في العمق من التوجه الي طريق السلام، أما الإصلاحيون في إيران فهم يحاولون ذلك وبتعثر شديد، فقد انطلق السيد جواد ظريف وزير خارجية ايران بما حظي به من زخم في المباحثات النووية مع الغرب اطلق نداءات التبشير بالحوار علي صفحات بعض الصحف العربية يحاول فتح باب جديد للتفاهم مع دول الجوار ،وطاف ايضا بعدد من العواصم وفي جعبته مبادرة ايرانية (ربما من جانب الاصلاحيين) للبناء علي زخم انتصارهم في المباحثات، و رغبة قطاع واسع من الايرانيين في مغادرة التشدد، إلا أن تلك الرغبة أولا قاصرة ، فهي تقدم القليل من التوافقات مع الكثير من المواقف السابقة، ربما خشية من الانزلاق إلي مواقف يؤخذ عليها من الإصلاحيين.
وبالتالي تحرك المتشددون بشكل أكثر شراسة. قيل الكثير من التوقعات فيما يخص (ما بعد الاتفاق ) قال السيد حسن نصر الله وكيل الإيرانيين في لبنان وزعيم الحزب التابع لهم، قبل الاتفاق بأسابيع، انتظروا ما سوف ينجم عن الاتفاق (الإيرانيون يفعلون كل ذلك في المنطقة العربية، قبل أن يأتيهم المال المجمد، فما بالكم لو تدفق ذلك المال) طبعا تلك اللهجة فيها من التهديد وأيضا الرجاء ، إلا أن الأمر الآخر انه لو تدفق ذلك المال سوف يتساءل المجتمع الإيراني، إن لم تظهر نتائجه لديهم، أين ذهب المال الوفير الذي حرره الاتفاق النووي؟؟ وهي تساؤلات يمكن أن تكبر وتسبب الكثير من الاضطراب في الداخل الإيراني.
في مكان آخر يري بعض الخبراء أن عودة تدفق النفط الإيراني إلي الأسواق سوف يغرق سوق النفط خلال سنوات قليلة،وبالتالي فهي عودة للإنتاج في إطار انحسار كبير علي الطلب علي تلك المادة، مما سوف يؤثر في سعرها، وهو تأثير يتضرر منه كل المنتجين، إلا أن الضرر الإيراني مركب، حيث سوف تتعارض توقعات الشعوب الإيرانية من الاتفاق النووي مع النتيجة التي سوف تظهر، وهي استمرار الشح الاقتصادي، خاصة مع استنزاف للخزينة الإيرانية في كل من العراق ولبنان وسوريا واليمن وأماكن أخري من المنطقة العربية والعالمية!
إذا عطفنا كل ذلك علي ما يصدره المرشد من (الغموض البناء) أي رسائل متخالفة في قبول أو رفض الاتفاق، يمكن للمراقب أن يرصد الصراع المحتمل بين الصقور والحمائم الإيرانيين، وهو صراع قد يصل في الشهور القادمة الي العظم. من نتاج ذلك الصراع ان الصقور بدوا يظهرون (شوكهم) في الجوار ، فهناك حملة ضد البحرين واضحة المعالم وهناك ايضا تهريب سلاح الي الكويت، كما هناك تشدد في الموضوع العراقي عن طريق استقبال نوري المالكي المتهم بعدد من القضايا في العراق ، و التشدد في الملف السوري ، كلها من إنتاج الصراع الداخلي الايراني، الذي يشده قطبان هما إصلاحي قليل الحيلة، ومتشدد يملك المال و العسكر (الحرس الثوري).
من جهة أخري فإن (عاصفة الحزم / الأمل) قد أظهرت وجها عربيا آخر لإيران، بعد أن ركنت إلي التراجع العربي لفترة طويلة. إذا الأوراق السياسية في المنطقة في هذه الفترة هي أوراق مبعثرة وفيها من (عض الأصابع) الكثير، و الأشهر القادمة مليئة بالمفاجآت المهم أن يبقي العرب علي إستراتيجية أن أفضل خطط الدفاع هو الهجوم المنظم من دول المحور العربي،وعدم الارتكان إلي جسور مع إيران في هذه المرحلة لأنها جسور غير ثابتة.
نقلا عن الاهرام