أثار استيلاء مجموعة قبلية في مارب على كتيبة من قوات الاحتياط استياء العديد من القوى السياسية ومن عامة الناس أيضاً على اعتبار أن هذا الفعل يمثل انكساراً للجيش ويؤثر في معنوياته، الأمر دفع بالبعض إلى التساؤل في ما إذا كان هذا الفعل في اتجاه الإضرار بالدولة يُعد سابقة في تاريخ القبيلة، فيما يُعد الانكسار سابقة في تاريخ المؤسسة العسكرية.
يُخطئ من يعتقد أن فعل القبيلة هذا تجاه الدولة يعد سابقة في تاريخها طالما اعتادت على تمريغ أنف الدولة في الوحل لاسيما خلال الأربع سنوات الأخيرة من خلال عدة أوجه لهذا الفعل، من أبرزها قطع أسلاك الكهرباء وتدمير بعض أبراجها وتفخيخ وتفجير أنابيب النفط والغاز وقطع الكابلات الأرضية المتعلقة بالاتصالات، ناهيك عن القطاعات القبلية التي ظهرت في اكثر من محافظة من محافظات الجمهورية.
يُخطئ من يعتقد أن هذا الانكسار الذي مُنيت به المؤسسة العسكرية حين اعترضت القبيلة طريق الكتيبة التابعة لقوات الاحتياط القادمة من شبوة في طريقها إلى العاصمة عبر محافظة مارب، وقامت بنهب عتادها وأسر أفرادها هو الإنكسار الأول في تاريخ المؤسسة العسكرية.
يُخطئ ايضا من يعتقد أن الانكسارات التي مُنيت بها المؤسسة العسكرية ترجع بداياتها للحظة سقوط اللواء 310 المرابط في عمران في أيدي جماعة أنصار الله أو للحظة وقوع العاصمة في قبضة هذه الجماعة يوم أن زحفت نحو أحياءها وشوارعها في 21 سبتمبر 2014م دون أن تواجه أية مقاومة أو ردة فعل من قبل عشرات الألوية العسكرية المرابطة في مفاصل هذه المدينة وما حولها، أو عند استهداف المعسكرات والنقاط الامنية من قبل الجماعات الإرهابية التكفيرية في أكثر من محافظة من محافظات الجمهورية.
يخطئ من يؤرخ لهذه الإنكسارات دون الرجوع لأخطر مفترقات الطرق في سجل أسفار هذه المؤسسة الوطنية، هذا المفترق الذي يقع بين تاريخين وبين عهدين سياسيين هما عهد الرئيس الراحل الشهيد إبراهيم الحمدي الذي لم يمكث في كرسي الحكم غير 3 أعوام و 4 أشهر، والذي كان عهده امتداداً لثورة سبتمبر ولوهج تلك الثورة التي أسست لجيش وطني قوي ولاءه لله وللوطن، وبين عهد الرئيس السابق الذي مكث في كرسي الحكم ثلث قرن من الزمن بنى خلال هذه الفترة جيشاً جراراً أطلق عليه من حيث عدته وعتاده برابع جيش عربي! لكنه الجيش الذي اقتصرت مهامه على العروض في المناسبات الوطنية أكثر منه جيشاً معداً لحماية الوطن والذود عن سيادته ومكتسباته.
للأسف الشديد وعلى الرغم من تعدد الألوية العسكرية ومما تمتلكه من تسليح ومن كفاءات قتالية ومن تراكم خبرة ومهنية عالية إلا أن هذه المؤسسة لم تُبنَ على أسس وطنية، حيث تم بناؤها وفق الولاءات الشخصية والأسرية ووفق الامتدادات المناطقية والقبلية، ووفق حجم مراكز النفوذ التي أمكنها التغلغل في أهم مفاصل هذه المؤسسة الوطنية، بحيث وصل مراضاتها إلى حد تخصيص ألوية ووحدات لبعض المشيخ من العيار الثقيل يتقاضون مخصصاتها الشهرية النقدية والعينية دون وجود لهذه الألوية ولهذه الوحدات على أرض الواقع.
للأسف الشديد لم يُبن الجيش على أساس وطني وإنما على أساس ولاءه وتبعيته لشريكي الحكم علي صالح وعلي محسن في إطار معادلة التقاسم لكل شيء في هذا البلد بما في ذلك المؤسسة العسكرية التي تم تقاسمها بين الشريكين في إطار مسميين هما الحرس الجمهوري الذي كان يدين بالولاء لعلي صالح، والفرقة الأولى مدرع التي كان يدين منتسبوها للجنرال علي محسن.
هذا هو حال جيشنا وهذا هو واقعه المعاش…. إذا ما أضفنا إلى هذا الخلل الكبير المتمثل بظاهرة الولاءات خلل أخر يتمثل بالوضع المعيشي الذي ينعم به كبار القادة وبالثراء المفرط الذي وصلوا إليه مقارنة بالاوضاع المعيشية المتدنية والمتردية التي يعيشها الجنود وكثير من الضباط والصف سنجد كم هي الأسباب التي حالت دون ارتقاء هذا الجيش إلى مصاف الجيوش التي تستعصي عليها الانكسارات بفعل عقيدتها الوطنية وبفعل حصولها على استحقاقاتها كاملة دون انتقاص وبفعل نزاهة قاداتها من العسكريين أو السياسيين.
انكسارات الجيش لم تكن وليدة اللحظة التي هجمت فيها بعض القبائل في مارب على كتيبة من كتائبه…. انتكاساته وانكساراته وهزائمه النفسية بدأت خلال حرب 94 عندما تبين لشرفاء الجيش أنها حرب فيد وغنيمة واستحواذ على ثروات الوطن أكثر منها حرباً في سبيل الوحدة المزعومة…
انكسار الجيش على أرض الواقع لم يكن وليد الأحداث التي جرت منذ 11 فبراير 2011م وحتى اللحظة، إنكساراته الحقيقية كانت قبل هذا التاريخ وبالتحديد خلال الحروب الـ6 التي خاضتها الدولة عبثا في صعدة ضد الظاهرة الحوثية التي تمخض عنها اكتساب هذه الظاهرة قوة ومناعة تجسدتا في حضورها حالياً على أرض الواقع بأخذ مواقعها في الرئاسة وفي اهم مفاصل الجيش وأجهزة الامن العامة منها والاستخباراتية فضلا عن حضورها في كل مفاصل الحياة في أكثر من محافظة.
انتكاسات الجيش وانكساراته مُني بها خلال الحروب الـ 6 طالما زُج بهذه المؤسسة إلى أتون تلك الحروب كوقود لحسابات مؤجلة بين الشريكين في الحكم علي صالح وعلي محسن، لقد رأينا ورأى من حولنا العالم خلال تلك الحروب كيف أمكن لشريكي الحرب –صالح ومحسن- أن يعبثا بالإنسان وبمقدراته وثرواته حين كانا يعلنان الحرب ويشعلان فتيلها ويوقدان جذواتها ثم يطفئانها فجأة ليستمرئا بما حصدته من أرواح وبما بددته من موارد وبما دمرته من مدن وقرى وبما سفكته من دماء وبما شردت من أبرياء وأنفقت من ماشية وطيور وبما رملت من نساء وأجهضت من ولادات.
انكسارات الجيش وانتكاساته واحباطاته ترسخت خلال حروب صعدة الـ 6 حين كان بعض القادة وكبار الضباط والشرفاء يُستهدفون من الخلف بنيران صديقة وحين كانت الاوامر من صنعاء تقضي بالإنسحاب من بعض المعسكرات المدججة بالسلاح الثقيل مع التشديد على ضرورة ترك هذه الأسلحة في أماكنها… الانكسارات التي مُنيّ بها الجيش جرت خلال الأيام التي كان ينسحب خلالها الضباط والصف والجنود من معسكراتهم وعيونهم شاخصة نحو آلياتهم ومعداتهم ومخازن ذخائرهم دون من يساعدهم على فك شفرة هذا الانسحاب ودون من يمسح عنهم دموعهم المنهمرة في ظل رفع أيديهم للاستسلام دونما مبرر ودونما تفسير لهذا الاستسلام غير التوجيهات التي ارغمتهم على ذلك.
كل الأحداث التي جرت في هذا البلد وعلى وجه التحديد منذ فبراير 2011م وحتى اليوم ما كان لها أن تحدث أو تتبلور إلى واقع معاش لولا انتكاسات وانكسارات واحباطات الجيش التي مني بها خلال عقود من أسفاره الشاقة والطويلة، لقد وقف هذا الجيش قبل ثلث قرن من الزمن مدافعاً عن العاصمة خلال حصار الـ 70 يوماً في وقت لم يكن يمتلك فيه من الإمكانيات العسكرية 2% على الأكثر مما يمتلكه اليوم، لقد كانت تكمن قوته -آنذاك- في صلابة عقيدته الوطنية وفي إيمانه بالقضية التي يضحي من أجلها وفي ولاءه لله وللوطن… اليوم ولأنه فقد كل هذه البوصلات رأيناه كيف يُهزم وكيف ينكسر أمام جماعة قبلية لا تملك غير البندقية في مقابل امتلاكه لكل الوسائل التي تمكنه من غزو عدو خارجي لا مواجهة أفراد بعينهم.
y.alsadh@yahoo.com