في ذكرى مولد سيدنا محمد :حسن أحمد شرف الدين
الخميس 12 ربيع الأول 1434ﻫ 24-1-2013م

 

 

ان احتفاءنا بمولد النبي الأعظم والرسول الأكرم، ليس مناسبة عابرة، ولا تقليداً مبتدعاً، كما يروج له بعض الناس، بل هو تكريم واحتفاء بمن احتفت بمولده السماوات والأرض قبلنا، وأضاءت لميلاده الدنيا بأسرها، وتبسم الزمان والمكان، وهللت كائنات الله ومخلوقاته، الحجر والشجر، الغيم والمطر، الشمس والقمر، الجبال والبحار والأنهار، الأودية والصحارى والقفار.. كل ما في الكون احتفى بمولد طه قبل أن نحتفي به.. فكيف لا يحتفي به البشر في كل زمان ومكان؟ 

كيف لا نحتفي بمن هو أطهر وأشرف المخلوقات على وجه الأرض؟ 

لم لا نحتفي بمن هو أغلى من آبائنا وأمهاتنا وأنفسنا؟ 

إنه احتفاء بالنبي الذي يفتديه كل المسلمين بأرواحهم، ولن يقبلوا المساس به حتى قيام الساعة.. إنه احتفاء بأقدس الرموز في حياتنا وفكرنا وثقافتنا وتاريخنا، احتفاء بنبي الإسلام .. 

إنه احتفاء بمن يعده الشرق والغرب أعظم قائد في تاريخِ الإنسانية، لأنه في نظرهم المعلم الذي غيّر وجه الأرض برمتها، وبنى أول دولة شوروية حقوقية تعايشية متسامحة، دولة العدالة الاجتماعية في أنصع صورها، فكان الثائر الأول، وقائد التغيير الأعظم.. 

فكيف لا يحتفي به أتباعه وعشاقه، ليصلوا عليه ويسلموا تسليماً، ليتذكروا أسرار عظمته، وينهلوا من معين سيرته الخالدة، ويذكروا الأجيال بخلقه العظيم، ومبادئه الأرفع، وقيمه الأسمى، القيم التي نحن بأمس الحاجة لاستحضارها اليوم والتمثل بها. 

من هنا نؤكد.. أن احتفاءنا بمولده صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله، ليس احتفاءً بمولد في حد ذاته.. بل هو احتفاء بفكرة ، بقداسة ، بمشروع نهضوي أممي، برسالة إنسانية، رسالة كان لها شرف النهوض بخير أمة اُخرجت للناس ـ لا لشيء ـ إلا لأنها كانت رسالة بناء، ركزت على بناء الإنسان أولاً، وإعداده للمسئولية مبكرا.. شذّبت سلوكه الجاهلي الأهوج، قوّمت أخلاقه، وروّضت قسوته وفجاجته.. علّمتْ وثقفت، درّبتْ وصقلت، حاورتْ واستوعبت واحتوت فرقاءها، وأهلت إنسانها لانتزاع زمام المبادرة وقيادة العالم لأنها حظيت بنبي عظيم، صنع من التواضع والبساطة والحياء والالتزام ( جبروت قوة ونفوذ ) ومن الأمانة والنزاهة والشفافية وطهارة اليد ( هيبة دولة ) ومن العدالة والمساواة والإنصاف والتآخي والإيثار ونصرة المظلوم والانحياز للضعفاء ( وحدة مجتمع وصلابة كيان )، وصنع من الشجاعة والأنفة وعفة النفس والاعتزاز بالذات ( سيادة دولة واستقلالية أرض وقرار ) وهذا كله هو ما نحتاج اليه في محنتنا الراهنة وأزمتنا المزمنة.. 

لهذا نحتفي بسيدنا محمد ، لنلتمس فضلاً بالصلوات عليه أولاً، ثم لنتأسى بأخلاقه العظيمة، علنا نقوّم سلوكاً أهوج في ممارساتنا تجاه بعضنا، أو نصحح مساراً أعوج في عصرنا المتخبط، أو علّنا نلتقط من صفحاته المبهرة لحظةَ مجد وإباء تنسينا وهدتنا، نداوي بها انكساراتنا المتوالية، ونستنهض نفوسنا الخائرة. 

إن مثل هذه المناسبات المقدسة ليست عبثية، إنها لحظة رجوع للأصل ، يعود إليها الفرع كلما عزّت القدوة، لحظة استرجاع للأصالة والهوية كلما تاهت الخطى المرتعشة.. 

لحظة توحد حول الثوابت السماوية حين تعجز الثوابت الأرضية عن توحيد القلوب المتصارعة ولملمة النفوس المتشرذمة.. 

أليس المسلمون اليوم هم أحوج الناس إلى التوحد حول رمز مقدس يؤلّف القلوب ويوحد الصفوف ويقرّب كل هذا التباعد المخجل والأحقاد المروعة التي اتسعت دائرتها بين أتباع الملة الواحدة والمصير المشترك؟.. 

بل ما أشد حاجتنا في يمن الايمان والحكمة بالذات إلى مثل هذه المناسبة المقدسة، إلى قبس من نور محمد يهدينا إلى سواء السبيل، نستلهم منه ضياءً ينير دروبنا الحالكة وخطانا المتعثرة، ويعيننا على تجاوز محنتنا وتناسي أوجاعنا وضغائننا، عله يهدينا إلى بناء دولتنا، دولة الحق، والعدالة، والمساواة، دولة الإنصاف وإحقاق الحقوق في هذا الزمن المتعسف، زمن الظلم الذي تجاوز حدوده وفاقم عناء الناس وبؤسهم، زمن الظلم الذي استقوى فيه السلاح والعنف والهيلمان على الأمن والأمان، واستأسدت الوجاهة والقوة والنفوذ على النظام والقانون والالتزام والانضباط، وتحكم فيه المال المدنس بالضمائر والجيوب والبطون، وتاهت معه الحكمة والتبصر والتعقل في بحر الصراعات والمشاكل والتعقيدات والتحديات المتراكمة، وغابت المصلحة العليا للوطن في زحمة المصالح الذاتية والحسابات الشخصية وضيق الأُفق، والرؤى القاصرة والمواقف المتحجرة.

ما أحوجنا لهذه المناسبة المحمدية المقدسة، لنتخذ منها محطة لابد منها لاستلهام العبر والدروس، وصناعة الحلول لمشاكلنا وتحدياتنا.. ونجعل منها محطة تقييم لمحاسبة النفس وتقريع الذات، وكبح الأنا المتغولة في دخائلنا.. 

ما أحوجنا لأن نتذكر ذلك المجتمع المحمدي النقي الذي تأسس على المحبة والمؤاخاة والإيثار والتواضع والبساطة والتنازلات، وعمت فيه العدالة والمساواة والإنصاف ، خشيةً من غضب الجبار المنتقم، وتغليباً لمصلحة مجتمع، وقوة دولة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها.. 

ما أحوجنا لمن إذا صلينا عليه صلاة ، صلى الله علينا بها عشرا.. 

ما أحوجنا لمحمد .. اللهم صلِّ عليه وآله