الجزيرة برس – صنعاء- عمران-على مسافة 7 كلم شرق مدينة ريدة، تتربّع عثار أقدم قرية ليهود اليمن، والوحيدة التي ما تزال تحمل اسما عبريّاً يعني القلعة. بمبانيها المقاومة للمتغيّرات على مدى أكثر من 2000 عام تنتصب عثار شامخةً على كتلة صخريّة، كواحدة من شواهد الحضارة اليمنية، المتميّزة بمبانيها الحصينة ونمطها المعماريّ الفريد. يستوقف الزّائر لها مقبرة خاصة بيهود اليمن، لا تزال تقف على أضرحتهم كحارس أمين. ظلّت العديد من الأسر اليهودية ساكنةً في منازل القرية إلى ما قبل 40 عاماً، لكنّها اضطّرت بعد ذلك إلى بيع منازلها وبناء أخرى في مدينة ريدة بالقرب من سوقها، حيث الورش الخاصّة بالمهن التي يجيدونها. اليوم، يسعى اليهود لبيع منازلهم ثانيةً حتّى يلتحقوا بأبناء طائفتهم الذين سبقوهم بالهجرة الى إسرائيل، وتبقى “عثار ” واحدة من أبرز الشواهد على مآثرهم.
حسرةٌ على رحيل الجيران
في الحيّ الذي غادره اليهود في مدينة ريدة، يتحسّر الجيران المسلمون على رحيلهم. الشّاب وائل منصور القديمي واحدٌ من هؤلاء. يقول القديمي في حديثه عن جيرانه إنّهم “كانوا طيبين، ماكنا نريد يسافروا… في كثير من الأيام كنا نحضر مقيل العيلوم (الحاخام)، نضحك ونتبادل الطّرائف والقصص… كانت أعراسهم المميّزة بالمزمار ومكبّرات الصوت، تشعل الحارة فرحاً وسروراً طيلة أسبوع في كلّ عرس، بأصوات الفنانين اليهود من مثل شمعة بنت طيبي، وعفراء هزاع، وفنان اسمه صولان قولان”. ويضيف وائل، في حديثه لـ “العربي”، مبتسماً، أنّ “الغناء اليهودي حالي، معي في الموبايل أكثر من 200 أغنية… حتى زيّ العريس اليهودي وزينته ثانية، في أعراسهم مشاقر ورياحين وشذاب وحنّاء وبيض”. كان إلى جوار وائل الشّاب عبدالله الوقيص الذي يستذكر جيرانه اليهود بقوله: “أجمل شيء في اليهود الزّنار (خصلات شعر حلزونية تتدلّى على خدود الذكور)، حرام لوما يقولوا لي عيب إني سأغزل زنار”. في مقابل منزل اليهودي يوسف حازا تقف الأربعينية وردة عيّاش لتخاطب آخر يهودية في ريدة: “أمانه عليكِ يا مزال لا سافرتي وتركتينا. زهرة وغزال سافرين مع سليمان الليل وما علمنا إلا بعد يومين…. والله اننا نحبكم يا مزال وماعملتم بنا شيء”. مشهدٌ يجسّد صورةً راقية للمحبّة والتعايش بين البسطاء على اختلاف دياناتهم.
تُعدّ عثار أقدم ثرية يهودية في اليمن
أين “الزّنّار”؟
مزال يحيى يهودا وزوجها سعيد ابن سعيد النّاعطي وبناتهما الثلاث هم آخر أسرة من يهود اليمن لاتزال في منزلها بمدينة ريدة في محافظة عمران. مزال انقطع تواصلها مع أهلها في اسرائيل بسبب تردّدها في اللّحاق بهم، فيما ترك سعيد مهنته كإسكافيّ، وبات يرغب في بيع منزله، بعد أن أقدم على قص “زنّاريه” لسبب يكشفه في ثنايا لقائه بنا. يلفت سعيد إلى أنّ “آخر من تبقّى من يهود في اليمن هم أسرته و3 أسر أخريات رحلت من منطقة آل سالم في محافظة صعدة في العام 2007، واضطّرت للسكن في المدينة السياحية في صنعاء”، مضيفاً أنّ “هذه الأسر هي عوائل كل من المدعوّين يحيى بن يوسف، وسالم مرحبي، وسليمان بن حبيب”، مؤكّداً أنّ “الوكالة اليهودية ترتّب لنقلهم إلى إسرائيل”. أين “الزّنار”؟ يجيب سعيد بأنّه “قام بقصّ شعر زناره قبل 3 سنوات، لأنّ بعض سكاّن ريدة كانوا يقولون إن مسلّحي الحوثي يبحثون عنه، بسبب انتقاده لهم في المجالس”، لكنّه يستدرك: “تبيّن لي بعد ذلك أنّ الحوثيين طيّبون ولم يكن لديهم نوايا لمضايقتي”. يتحدّث سعيد عن رغبته في الإستقرار في اليمن، معرباً بإصرار عن أنّه “ما أشتي أعيش إلا في اليمن بلادي ومسقط راسي، ولي الآن سنة والتّواصل مع أهلي في إسرائيل مقطوع بسبب رفضي الهجرة، لكن لا أكذب عليك، أنا الآن أبحث عن مشتري لمنزلي وسيارتي للسّفر إلى إسرائيل، رغم أنّ مزال تريد البقاء في ريدة، لكن لا يوجد لنا الآن مصدر دخل. تعبت من ترقيع الأحذية مابش منها فايده، ومعي 3 بنات قد بلغن سنّ الزواج وماعاد في ولا شاب يهودي“.
الهجرة عبر الأردن
وحول هجرة الحاخام سليمان دهاري مع جيرانه إلى إسرائيل، يشير سعيد إلى أنّ “منازلهم ظلّت معروضةً للبيع بمعرفة كل سكان ريدة، وقبل أسابيع باع العيلوم سليمان الموتر حقه (درّاجة ناريّة) ب35 ألف ريال، ويحي يعقوب باع منزله ب3 مليون و200 ألف ريال، وماشا يحيى باع منزله ب 2 مليون و500 ألف ريال. وبعدها سافروا بجوازاتهم اليمنية عبر المكتب الأردني”. أيّ مكتب تقصد؟ أعطاني الحاخام سليمان رقم هاتف، وقال: “عندما تريد الهجرة اتصل بالمكتب الأردني على هذا الرقم وهو سيتولى نقلك إلى إسرائيل”. هنا تدخّلت مزال مضيفةً: “لكن ليلة سفرهم من ريدة ما أخبرونا، وما علمنا إلا من الجيران أن قد وصلوا الى إسرائيل“.
من اليهود المتبقّين في اليمن 3 أسر في صنعاء
ماذا أخذ الحاخام سليمان معه إلى إسرائيل؟ نتوجّه بالسؤال إلى سعيد. فيجيب: “لم يأخذ معه شيئاً إلا نسخة من التوراة مكتوبة على جلد غزال، وعمرها أكثر من 800 عام، فيها أسفار التّوراة وشروحها وديوان شعر الحاخام سالم شبزي”. يتابع سعيد أنّ “اليمن بلادي وأرض آبائي وأجدادي، أنا يمني ابن يمني ما ناش مستورد، إلا ظروف الحياة التي تجبرنا على الهجرة. قبور أبي وأمي وأجدادي في قريتنا في عثار”. تقاطعه مزال زائدةً: “اليمن مسقط الرأس، أنا أحب كل جيراني، وصديقاتي من المسلمين ما يبخلن عليا بشيء، يعطينني علف للغنم وعنب وفرسك وبرقوق (مشمش) في موسم الخريف”. هل تحصلون على مساعدة أو تحظون برعاية من السلطات في اليمن؟ يسارع سعيد بالنّفي: “المسؤولون اليمنيون لم يقدّموا لنا أي شيء، الا ما اكتسبناه بجهودنا الذاتية، والقبايل الكثير منهم طيبين يتعاونوا معنا”، فيما تدّعي آزال أنّه “ما كان في معانا من المسؤولين إلا الشيخ مجاهد أبو شوارب له الصلوات والدعوة للرب بالسلوان. كان يرعانا ويتفقد احوالنا وما بدأت بعض المضايقات لنا الا من بعد مات”. يختم سعيد الحديث جازماً: “مافيش معانا خلاف مع أحد من المسلمين إلا في الفترة الأخيرة، كانت تقذف منازلنا ليلاً بالحجارة من مجهولين، وأعتقد أن الّسبب مضايقتنا حتى نضطّر لبيع منازلنا بأسعار رخيصة
نقلا عن موقع العربي بالتنسيق مع الكاتب والباحث اليمني الاستاذ فايز الأشول