فايز الأشول يكتب : ما تبقّى من يهود اليمن (1/2)
الأحد 17 ربيع الثاني 1438ﻫ 15-1-2017م

 

ما تبقّى من يهود اليمن (1/2)

الجزيرة برس – صنعاء- عمران – فايز الأشزل – ما يقارب ال50 فرداً هم من تبقّى من يهود اليمن. عاشوا قروناً من الزمن في هذا البلد، سادت على امتدادها روح التعايش وتبادل المنافع. إمتهنوا التجارة والصناعات الحرفيّة، وبرعوا فيها نجّارين وحدّادين وصاغةً للحليّ والمجوهرات بمهارة فائقة. كما عمل الكثير منهم في العقود الأخيرة “إسكافيّاً”، في محيط قبلي تنحصر فيه هذه المهنة في الفئات المهمّشة، فيما يقبل اليهود عليها لتوفير لقمة العيش لهم ولأسرهم، متمسّكين بيهوديّتهم، وحريصين على تخليد مآثرهم، ليرحلوا وتبقى “نجمة داوود” محفورةً على الأبواب والنوافذ والمشربيّات الخشبيّة التي صنعوها لعدد ليس بالقليل من الحصون والقلاع والمنازل القديمة. 
حتّى منتصف القرن العشرين ظلّ تواجدهم في اليمن بالآلاف، لتبدأ عمليات التهجير إلى أرض فلسطين في ديسمبر من العام 1948م، والتي أُطلق عليها “البساط السحري”، ومنذ ذلك الحين انحسرت أعداد يهود اليمن حتى شارفت على الإنقراض. من 70 يهودياً يمنياً هم آخر من تبقّى في جنوب الجزيرة العربية، هاجر إلى إسرائيل الأسبوع الفائت 19 فرداً منهم، في حدث تصدّر وسائل الإعلام. وأثار وصولهم إلى “بئر السبع ” لغطاً في الأوساط اليمنية، فيما عمدت بعض الأطراف إلى توظيفه في الصراع المدمّر الذي يشهده اليمن، والذي أضر بالتّعايش، وأشعل التّعصّب، وعمّق الشرخ المجتمعي، وكان سبباً رئيسياً في هجرة الحاخام، سليمان بن يعقوب، مع 18 من أبناء طائفته اليهودية، بعد أن باع منزله في ضاحية مدينة “ريدة” بثمن بخس – مليون ونصف ريال يمني – وحمل معه مخطوطاً قديماً لـ”التّوراة” بأسفارها الخمسة، والتي فَتَحت له بوابة مقرّ الحكومة الإسرائيلية. 

حرص اليهود على تخليد مآثرهم في اليمن
حتّى الشمعدان أُخذ إلى “بئر السبع 
باع الحاخام سليمان دهاري منزله في مدينة ريدة بمحافظة عمران ب 2 مليون ريال يمني، كما باع ممتلكاته كافّة، حتّى درّاجته النّارية التي باعها ب35 ألف ريال، لكنّه حافظ على مخطوطة “التّوراة” بأسفارها الخمسة، التي يقول عنها اليهودي، سعيد الناعطي، “إنّها تحوي الأسفار التي نزلت على سيّدنا موسى، وهي سفر التكوين، سفر الخروج، سفر اللّاويّين، سفر العدد، وسفر التّنشئة، إلى جانب التّملود بجزئَيه: النّصّ، وجيمارا (الشّرح) أتفسير نصوص التّوراة وأحكامها”. هذه المخطوطة ومعها ديوان الشبزي، حافظت عليهما الطائفة اليهوديّة في اليمن جيلاً بعد جيل، حتّى أوصلهما الحاخام سليمان الى إسرائيل. وحتّى شمعدان الكنيس المتواضع (والذي أصبح اليوم مهجوراً في مدينة ريدة) حمله الأسبوع الفائت يهودا بن يعقوب إلى “بئر السبع“.

ديوان الشبزي إلى إسرائيل 
من عدن و شرعب والمعافر في تعز، إلى قاع اليهود في صنعاء، وآل سالم في صعدة، إلى عثار في عمران ،وعلى مدى 68 عاماً، وعمليات “البساط السّحري” لنقل يهود اليمن إلى إسرائيل لم تتوقّف، إمّا بتواطئ من السلطات اليمنية المتعاقبة، أو بسبب مخاطر تهدّدت حياة البعض منهم، مع نشاط متواصل لمنظّمات في إعادة توطين اليهود وجمع شتاتهم في إسرائيل. رفات الشّاعر والأديب والحاخام سالم الشبزي نُقل من تعز إلى إسرائيل في ثمانينات القرن الماضي، لتكتمل الجريمة في منتصف 2015 عندما أقدم متطرفون على تفجير القبّة، التي كانت تحوي رفاته في جوار قلعة القاهرة في تعز. وتكشف الأسرة اليهودية المتبقية في ريدة بعمران لـ “العربي” “أنّ الحاخام سليمان بن يعقوب دهاري، حمل معه إلى جانب مخطوطة التّوراة القديمة، النّسخة الوحيدة لديوان الشبزي، والتي لم تُترجم من العبرية إلى اليوم، ولا توجد نسخة عنها في أيّ من المكتبات اليمنية“.

المدرسة العبرية استحالت سكناً 
باع دهاري منزله في ريدة ب2 مليون ريال يمني
51 ألف يهودي كانوا يقطنون اليمن في العام 1948، انحسرت أعدادهم إلى أسرة واحدة في مدينة ريدة – 65 كم شمال العاصمة صنعاء – و3 أسر أخريات في المدينة السياحية في صنعاء تتأهب للهجرة إلى إسرائيل. من عهد الملك، ذو النواس الحميري، الذي اعتنق اليهودية في القرن الرابع الميلادي، إلى عائلة سعيد ابن سعيد داوود الناعطي، آخر يهود اليمن، 16 عشر قرناً من التّنوع والتعّايش الديني يوشك اليمن أن يفتقدها.
يطرق “العربي” باب المدرسة العبرية في مدينة ريدة، التي حرص سالم مرحبي على تلقين تعاليمها لأبناء الطائفة على مدى أكثر من عشرين عاماً، فإذا بها قد تحولت إلى منزل لمواطن يمني يدعى يحيى صالح عبدالله عقبات. يشير عقبات لـ “العربي” إلى أنّ “هذه المدرسة العبرية استأجرتها منزلاً لعائلتي، بعد أن اشتراها الشيخ عبدالعزيزهراش في فبراير الماضي ب3 ملايين ريال يمني من الحاخام سليمان بن يعقوب دهاري”. لم يعد هناك شاهدٌ يوحي بوجود مدرسة سوى أحرف عبرية، مثبّتة على بوابتها، و”شخبطات” التلاميذ على جدران فصولها. في محيط المدرسة ستة عشر منزلاً كان يملكها أبناء الطائفة اليهودية، بيعت جميعها لمسلمين من محافظة عمران عدا منزل اليهودي سعيد، الذي قابلتنا زوجته بالترحاب. تجيب الزّوجة تساؤلنا حول سبب رحيل أبناء عمومتها بالقول: “ياعيوني شني الدموع الغزيرة … كلا حبيبه معه واحبابنا رحلوا .. ماباقي الا أنا وبناتي الثلاث وهذا الجني”، مومِيةً إلى زوجها سعيد.

إنقراض صناعات اليهود
ظلّ اليهود اليمنيين متمسكين بديانتهم وحصر الزواج فيما بينهم، باستثناء شابّة يهودية تدعى لية سعيد حمدي، توجّت حبّها لعبد الرحمن الحديقي (من خارج الطائفة اليهودية) بالزواج منه في العام 2009، ما أثار غضب عائلتها التي حاولت استرجاعها إلى منزلها، ليضطرّ زوجها للإنتقال بها والسّكن في صنعاء تحاشياً لغضب أسرتيهما، وعدم موافقتها على هذا الزواج. ومثلما حافظ يهود اليمن على روابطهم الأسرية، حافظوا على مهن ارتبطت بهم ك” الإسكافيّ” ودباغة الجلود واستخدامها في صنع أحذية مميّزة وملابس شتوية، إلى جانب صناعة أوانٍ منزلية وأدواتٍ زراعية وصياغة الحليّ والمجوهرات. لكن بسبب دخول أدوات جديدة في هذه الصناعات وعدم اهتمام الحكومات المتعاقبة بالحفاظ عليها، وانخراط عدد ليس بالقليل من أبناء القبائل في هذه المهن، التي كانت إلى قبل 30 عاماً في شمال اليمن محصورةً في اليهود، فقد معظم اليهود مهنتهم والمصدر الرئيسي لمعيشتهم، وهذا ما يُعدّ أحد الأسباب الرئيسة لهجرتهم

 

نقلا عن موقع العربي بالتنسيق مع الكاتب والباحث اليمني الاستاذ فايز الأشول