كان لا بد من الحسم مع من لا يفهم سوى القوة، ولا يحترم عهودا ومواثيق، ولا يرى الحوار سوى غلالة رقيقة الغاية منها المناورة بهدف كسب الوقت.
لقد جعل الحوثيون، ومَن يحركهم من الخارج ويحالفهم ويتستر بهم في الداخل، من عبارة «مُخرجات الحوار الوطني»، نكتة سمجة.. عند كثرة من إخوتنا في اليمن، ومعظم المهتمين بالشأن اليمني على امتداد الوطن العربي الكبير.
وبمرور الوقت، ومع حرص دول مجلس التعاون الخليجي على إعطاء التسويات السلمية الفرصة تلو الفرصة، ولدى النظر إلى حالتي الانقسام والعجز العربي إزاء محنة سوريا، تولّد عند الحوثيين وأصحاب المخطط الإقليمي الذي يخدمه الحوثيون، صلفٌ فظيعٌ انعكس في تصريحات إيرانية لا يمكن أن تصدر عن ساسة عقلاء.
وكما هو معروف، تجلى هذا الصلف الإيراني بالتباهي صراحة بالهيمنة على أربع عواصم عربية، وتجوال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري الإيراني» علانية بين جبهات الأنبار ونينوى وصلاح الدين بغرب العراق وجبهات القتال السورية وكأنه في بيته وبين جنوده… ثم قول علي يونسي، مستشار الرئيس حسن روحاني، إن بغداد عادت عاصمة للإمبراطورية الإيرانية العائدة والمتمددة. وكان طبيعيا أن ينحدر هذا الصلف نزولا إلى أن يغدو جزءا من خُطب كل أتباع طهران وممارساتهم في كل الأقطار العربية الساقطة، أو المهددة بالسقوط، تحت هيمنتها.
في العراق، أخذت تتكشف ليس فقط حقيقة ممارسات «فيلق بدر» وقائده هادي العامري.. بل أيضا ممارسات «الحشد الشعبي» الذي يظهر الآن على حقيقته أي «ميليشيا مذهبية» لا تصلح في الظروف الراهنة نواة لـ«حرس وطني» يُعيد اللحمة الوطنية إلى العراق. وللعلم، إعادة اللحمة الوطنية هي الخطوة الضرورية لنهوض العراق وعودته وطنا سليما لجميع مكوناته، ومن ثَم، كسب الحرب على الإرهاب بعد إزالة مرارة الغبن والتهميش في جانب، وإنهاء الغطرسة والتبعية للخارج في الجانب المقابل.
وفي اليمن، غدت إطلالات عبد الملك الحوثي نسخا طبق الأصل لإطلالات السيد حسن نصر الله أمين عام «حزب الله» في لبنان شكلا ومضمونا. وتبَيّن تماما كيف طبّق الفريقان التابعان لمرجعية واحدة «السيناريو» نفسه، ولا سيما ادعاء الحرص على الحوار والتعايش، مقابل الاستقواء بالسلاح تحت ذريعة التصدّي لـ«التكفيريين»: «حزب الله»، و«القاعدة» (الحوثي)، وهي الذريعة المركزية في استراتيجية طهران في استدراج عروض التطبيع الإقليمي مع واشنطن. والملاحظ أن هذا «السيناريو» يطبّق بصورة مماثلة في الساحتين العراقية والسورية.
غير أن العنصر الذي عجّل باتخاذ قرار «عاصفة الحزم» هو انفضاح الدور الخطير للرئيس السابق علي عبد الله صالح المنخرط في لعبة تدمير كاملة لليمن تقوم على تحالفات تكتيكية وتبادل منافع ولو على حساب وحدة البلاد واستعادة استقرارها. وهنا كان الهجوم على تعز، بالذات، مؤشرا خطيرا للغاية، ناهيك من القصف الجوي لمقر الرئيس عبد ربه منصور هادي في مدينة عدن والزحف على لحج والضالع والسيطرة على قاعدة العند القريبة من عدن. ولقد زاد من خطورة «انقلاب» صالح تلاقيه – ولو بصورة غير مباشرة – مع «استثمارات» طهران المُزمنة في قوى جنوبية عائلية تقليدية وحزبية راديكالية.. مما وفّر للتحالف التكتيكي بين الحوثيين وصالح امتدادا مفيدا و«قنبلة موقوتة» في الجنوب، كان من الممكن تفجيرها فيما لو سقطت عدن وشبوة.
في ضوء هذا الواقع، كان من شأن السماح بإسقاط الرئيس هادي، الرئيس الشرعي الضامن لتطبيق «المبادرة الخليجية» المدعومة دوليا، والسكوت عن قيام كيان إيراني الولاء يسيطر على عدن ومضيق باب المندب وجزيرة سقطرى، إحداث تغيير استراتيجي ضخم في جنوب شبه الجزيرة العربية له تداعيات مستقبلية غير مسبوقة وغير محسوبة.
وهكذا، لم يترك «التحالف» بين عسكريي علي عبد الله صالح ومشروع التوسّع الإيراني – ممثّلا بالحوثيين ومتذرّعا بمواجهة «القاعدة» – أي خيارات للأسرة الخليجية، بل كل عربي يقف مذهولا إزاء تدهور أوضاع المنطقة، سوى التحرّك بسرعة وحزم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.
الموقف الإيراني الفوري كان متوقعا يلخَّص باستنكار «التدخل»، والحرص على «سيادة» اليمن، والدعوة إلى «الحوار»، ومكافحة «التطرف».
متوقع، لأنه يكرّر «لازمة» طهران المألوفة لتبرير تدخلها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، بل والبحرين وكل مكان تصل إليه. والطريف أنها لا ترى أن «تدخلها» الحربي المباشر عبر ظهور سليماني العلني، ومشاركة الفصائل التابعة له في معارك سوريا والعراق، يلغيان «السيادة» المتباكى عليها. أما عن دعوات طهران للعودة إلى «الحوار» ومكافحة «التطرّف»، فإن مواطني المنطقة يعرفون جيدا هوية الجهات التي رفضت الحوار في العراق وسوريا، وأيضا في لبنان واليمن، وما زالت ترفضه.
وهم يعرفون كذلك أي سياسة طائفية تمييزية تهميشية أسهمت في نشوء بيئات يائسة تسلل إليها التطرّف الإرهابي، بل ومَن شجّع هذا التسلل، وفي أحيان كثيرة مَن رعاه وأمدّه بأسباب الحياة، لكي يستثمره لاحقا بابتزاز العالم بتطرفه وفظائعه.. وعند حكومة نوري المالكي وأجهزة نظام بشار الأسد الخبر اليقين.
عود على بدء..
بالأمس اتخذ القرار الشجاع بإنقاذ اليمن من المصير المظلم الذي كان يُقاد إليه. وهو خطوة لا بد منها لإعادة وضع قطار الحوار الحقيقي – لا حوار استسلامي أمام فوهات البنادق – على السكة الصحيحة. وهو أيضا خطوة يتوجّب على المجتمع الدولي دعمها بقوة لكي تتوقّف مسيرة الهيمنة العرقية والطائفية الإقليمية المتسبّبة بإنتاج التطرّف واستيلاد الإرهاب.
لقد دفعت منطقة المشرق العربي ثمنا باهظا من أمنها وكرامتها القومية والوطنية، ثمنا لاسترضاء إيران وإقناعها بالتفاهم على ملفها النووي، واستغلال حكام طهران محاولات الاسترضاء لفرض حقائق احتلالية – تفجيرية على الأرض فوق أنقاض التعايش والتسامح والتفاهم بين مختلف شعوبها.
آن الأوان لإدراك أهمية التعامل مع ملفات المنطقة الشائكة بصورة مختلفة، فالإرهاب والتطرّف اللذان يشغلان المجتمع لا يواجهان إلا ضمن استراتيجية سياسية أمنية مكتملة، وجاء أول الغيث من «عاصفة الحزم».
الشرق الاوسط