تزايدت المناشدات للمانحين لليمن والمقرضين لمصر، لتعجيل السداد قبل موت الجائعين، وقد شاهدتُ مواكب الوفود وزمارات الدراجات السريعة لمرافقة المؤتمرين، وكالمعتاد من المؤتمرات الفخمة في كل من: الرياض ولندن، ونيويورك، وغيرها. وسمعت كما سمع غيري بأن اليمن قد حصلت على التزامات المانحين بما يناهز الثمانية مليارات من الدولارات، وقد تفرغت الحكومة وأنشأت فرقاً للعمل لاستيعاب تلك الأموال والمنح، وأعدت الخطط والبرامج. وكذلك شاهدت مثل غيري وعوداً وردية من صندوق النقد الدولي لقرض ميسر بما يقارب الخمسة مليارات دولار، لمصر العزيزة، وبدأت المعارك في الوسط المصري حول أن القرض حلال أو حرام، ومكلف أو ميسر.
وحول شروط المنح لليمن والقرض لمصر، انقسمت صفوف الناس بين مؤيد ومعارض، وكأن تلك الأموال قد أمست في خزائن البنك المركزي في القاهرة، وفي صنعاء، ومضت الأسابيع والأشهر بعد الأشهر، وفجأة استفزتني الأخبار بأن تلك المنح وتلك القروض لم يسدد منها حتى مليم أو فلس واحد حتى الآن! وبعد أن أحدثت الأخبار عنها شروخاً عميقة من الخلافات والتوترات والانشقاقات بين أطياف المجتمع المصري واليمني الطيبين، وها نحن نشاهد أن الأنظمة في كل من مصر واليمن قد بدأت ترفع الصوت – شديد الحزن بعد تلك الهالة من التطبيل – مطالبة بالوفاء بتلك الوعود؛ إذ لم يصل شيء منها. وسمعتُ أخباراً شبه مؤكدة أن دولاً عربية أخرى على غير وفاق مع نظام صنعاء والقاهرة، تضغط على المانحين والمقرضين لتعطيل تلك المنح والتراجع عن ذلك القرض؛ حتى تصل الأوضاع الاقتصادية إلى الهاوية أكثر مما هي عليه، وقد تكررت نفس هذه القصة مع اليمن خلال 2010م قبل الثورة، وانتهت حيثما بدأت بعد أن كبد الوزير السابق طيب القلب د.عبدالكريم الأرحبي نفسه كل المشاق، وكل الأسفار، ويذكرني هذا الحال بالتزامات مثيلة سابقة والتزامات أسبق لم يف أي مانح أو مقرض منها بشيء، وأرى التخوف بادياً على الوجوه من أن تظل تلك المنح والقروض مواعيد كمواعيد عرقوب التي قال عنها الشاعر:
أضحت مواعيد عرقوب لها مثلاً
وما مواعيده إلا الأباطيلُ
أما المانحون ومن يقف وراءهم فلهم شروط ومطالب أكثر من القيمة الحقيقية للمنح المالية المعروضة للدول إن صدقت في دفعها.
ومن شواهد الحال قصتان إحداهما سمعتها بأذني من الرئيس المصري السابق حسني مبارك في قصر الاتحادية في ذات لقاء دبلوماسي؛ إذ شرح قصة المنحة الأمريكية لمصر مشروطة، والذي هددت الولايات المتحدة يومها بإيقافه عن مصر لأسباب لا داعي للدخول في ذكرها الآن، فقال: المنحة الأمريكية بمليوني دولار مساعدات عسكرية لا يصل منها للغرض المسمى حتى خمسها، واستطرد شارحاً: المنحة والقرض يصرف بحسب رغبة المانحين والمقرضين، وليس حسب حاجة المقترض، فمن شروط كل قرض أو منحة أن يصاحبها عدد كبير مما يسمى خبراء من قبل الدولة المقرضة، وما يتقاضاه كل خبير من راتب وبدلات، وتأمينات ما يقرب من نصف مليون دولار سنوياً، وعلى حساب القرض، وتخصم مباشرة، كما أن المعدات التي يجب شراؤها من قيمة القرض أو المنحة مشروطة أن تكون من البلد المانحة ذاتها، على أن تخصم من القرض، وبسعر قد يصل عشرة أضعاف القيمة الحقيقية، وتخصم مباشرة، وهكذا يستعاد القرض والمنحة لمن منحها وللمقترضين تحمل هم الدين ودفع الفوائد، وتحمل الأعباء على مستقبل البلد… فاندهشت مع الحاضرين!!!
وهنا تذكرت رواية طريفة عن المنح والقروض للدول الفقيرة من الدول الغنية، إذ تقول الرواية: «السماء تمطر الشاطئ في بلدة صغيرة تمر بظروف اقتصادية صعبة وجميع سكان البلدة مهمومون بديون بعضهم لبعض؛ كان في تلك البلدة فندق واحد يستضيف السائحين، ولكنه يشترط دفع إيجار كل ليلة مقدماً حتى لا يقول السائح أثناء المغادرة سجلوها ديناً علي، فجأة يأتي سائح أجنبي من خارج المدينة، ويدخل الفندق ويضع مائة دولار أمام موظف الاستقبال ويصعد ليتفقد الغرف من طابق إلى طابق ليختار الغرفة المناسبة لإقامته، وفي تلك الأثناء يستغل موظف الاستقبال فرصة وجود مائة دولار ويدفعها للجزار الذي يبيع اللحم للفندق، فبادر الجزار فرحاً ودفع المائة دولار لراعي الغنم الذي يبيع له الماشية كجزء من دين عليه، وإذا بتاجر الماشية يفرح بها ويدفعها فوراً لبائع العلف الذي يبيع له كجزء من دين عليه، فإذا بتاجر العلف يدفع المائة دولار لعاهرة في المدينة لتسديد ما عليه من مستحقات متأخرة…لأنها كانت تبيع خدماتها بالدين والسلف؛ نظراً للأحوال المعيشية الصعبة، وبادرت عاهرة المدينة مسرعة إلى الفندق لتسدد بالمائة الدولار ديناً عليها للفندق؛ لأنها كانت تستأجر إحدى غرفه لخدمة زبائنها، فوضع موظف الاستقبال في الفندق المائة دولار أمامه على الكاونتر (مكتب الاستقبال)، وقبل أن يدخلها الصندوق فإذا بالسائح الأجنبي ينزل من طوابق الفندق لم تعجبه أي غرفة، وقرر أخذ المائة الدولار ووضعها في جيبه ورحل عن المدينة بالمائة دولار، ولم يستفد منها أي من سكان المدينة».
كذلك هي قصة الاعتماد على المنح، وتلك الأمثال نضربها عن المانحين والممنوحين، أما دول المنطقة التي تتحدث عن هباتها، ونسمع جعجعاتها بالمليارات، ولا نرى لها طحيناً، ويدعون أنها بعشرات المليارات؛ ولكن فيما لا تراه ولا تحس به الشعوب، بل تذهب ترانزيت لحسابات خارجية لشخص أو أسرة، ثم تحسب تلك الهبات قروضاً ومنحاً على الشعب، وعلى قائمة المنن المشكورة، فمثلهم كمثل راعي الغنم الذي اكتشف مرعى مخضراً بالعشب، وخشي أن يلحقه غنم الجيران فيسبقونه إليه، فبادر بتعليق حزمة ضخمة من الحشائش الخضراء على حبل يتدلى من فوق شجره على رؤوس غنم الجيران، أعلى من مستوى تناول رؤوس الماشية بمتر واحد، وظلت غنم الجيران طول النهار تحاول القفز للوصول للحشائش المعلقة فما استطاعت، ولم تقتنع من أنها ستحرم منها فعلاً، وظلت تتناطح وتتقاتل من أجل الوصول إلى البقعة التي تحت تلك الحزمة المدلاة مباشرة، ظناً منها أنها ستستطيع القفز إليها، وهكذا ظلت تحاول أياماً للوصول إلى رزقها المعلق فوق رأسها، ولم تيأس ورفضت الذهاب للبحث عن حشائش أخرى في المرعى، حتى أطاح بها الجوع، وأعياها عن المشيء، بينما الراعي الذي صنع المكيدة ذاد غنمه للرعي في تلك الحشائش المكتشفة دون منافس، وقام خطيباً في غنمه: انظروا غيركم من أغنام الآخرين كيف يتناحرون فيما بينهم، ويمزقهم الجوع، والفقر وأنتم تنعمون بخير راعيكم، وذكائه، فلا ترفعوا أصواتكم، ولا تتناطحوا واسمعوا وأطيعوا لراعيكم، ولمن يعملون معه، حتى لا تلحقكم لعنة ذلك الغباء والجوع.
أمابعد: لماذا استطاع صندوق صغير في اليمن قليل المال تابع لدولة هولندا الوصول إلى مسامع السكان في كل جبل وقرية، وأحست به التعاونيات والمحليات في قرى وجبال اليمن في التعليم، في الصحة، في المياه، وليس في ذلك الصندوق أي مليارات، بل مساعدات يسيرة تساند جزئياً في المشروعات مع الأهالي، هل الهولنديون في أموالهم بركة، أم لأنهم مخلصون لوجه الله وغيرهم للقيصر؟.
ماذا أقول لربى حين يسألنى
إذا بعثت غداً في معشر العرب؟
وجئت أحمل من أخبارهم قصصاً
أبطالها كل أفاك وكل غبي
قالوا: ترليون عند الغرب ثروتهم
والشعب في درك الإملاق والسغب