في تاريخ اليمن المعاصر, ثمة شخصيات وطنية كبيرة كانت وما تزال محل إجماع غالبية اليمنيين, بالنظر إلى رصيدها النضالي والأدوار الوطنية التي ارتبطت بها, والتي صارت فيما بعد جزءاً مهماً من تاريخ هذا البلد. فحين تحضر الثورة كإنجاز تحضر معها عادة نضالات وتضحيات أولئك الرجال. وفي غمرة ذلك, فإن أحاديث الثورة اليمنية وذكرياتها عادة ما تستدعي إلى ساحتها رموز وقامات وطنية باسقة كالزبيري والنعمان والشيخ عبدالله الأحمر- رحمهم الله- وكثيرون غيرهم ممن يعرفهم ومن لا يعرفهم الشارع اليمني. في المقابل, حين تحل بساحتنا ذكرى رحيل شخصية وطنية كبيرة كالشيخ عبدالله الأحمر, رحمه الله, فإن أدواراً وطنية كبيرة تحضر إلى جانبه وتلازمه, كجزء من تاريخ حافل للرجل والوطن معاً.
الشيخ عبدالله الأحمر رحمه الله هو أحد الشخصيات القليلة التي حازت إعجاب اليمنيين واحترامهم, وكان محل توافق مختلف القوى السياسية والقبلية اليمنية, وهو مالم يحظ به زعيم قبلي وسياسي آخر. ويمتاز الرجل بكونه استطاع الجمع بين الأدوار السياسية والقبلية عبر زعامته لأكبر حزب سياسي معارض وأحد أكبر التكتلات القبلية في البلاد, وتلك ميزة انفرد بها الشيخ الأحمر عن غيره من الرموز والقيادات السياسية والقبلية.
حين قامت ثورة سبتمبر 62, كان الشيخ عبدالله في سجن المحابشة بحجه, وكان الإمام أحمد قد فرغ للتوا من قتل والده وأخيه, ثم رأى ضرورة التخلص من آخر شيوخ الأحمر فأرسله إلى سجن حجه حيث مكث فيه ثلاث سنوات قبل أن يخرج منه ليمضي في مسيرة الثورة, ويقود قبائله في جبهة التصدي والمقاومة لفلول الإمامة في المناطق الشمالية من البلاد. وفي خضم الحرب الشرسة بين الجمهوريين والملكيين تمكن هؤلاء الأخيرين, في أوقات كثيرة, من اختراق صفوف الجمهوريين عبر شراء ولاءات بعضهم بالجنيهات الذهبية, وكان من نتائجه التآمر على الثورة وعلى القاضي الزبيري, واستشهاده تالياً في ظروف غامضة. ويُحسب للشيخ الأحمر وفائه للثورة وإخلاصه لها, وكفاحه المشهود لنصرتها على درب أستاذه الزبيري, للحيلولة دون انحرافها أو وقوعها في قبضة الإماميين, الذين عادوا من الباب الخلفي وتلبّسوا بالثورة واندسوا في أوساطها وحاولوا ركوبها, تماماً كما يفعل أحفادهم اليوم مع ثورة فبراير. لقد انحاز الشيخ الأحمر إلى ضميره ومصالح شعبه ووطنه, وكان بمقدوره وقتها -لو أراد- تحقيق الكثير من المكاسب والطموحات الشخصية على حساب ثورة الشعب, لكنه لم يفعل. وبالمثل كان بوسعه كذلك التماهي مع بعض الرغبات والمطامع الخارجية أثناء الأزمة السياسية الشهيرة وأندلاع حرب صيف 94, وتقديم فروض الطاعة والولاء تحقيقاً لمصالحه على حساب المصالح الوطنية العليا, لكنه انحاز مرة أخرى لوطنه ومصالح أمته, فيما ذهب آخرون للتكسب من وراء تلك الأزمة, وجعلوا من أنفسهم أدوات طيّعة بيد الخارج.
الشيخ عبدالله الأحمر, ورغم كونه احتفظ بلقب شيخ مشايخ حاشد, إلاّ أنه مع ذلك كان أقرب للعمل السياسي منه للقبلي, وظل طيلة حياته كأحد أهم المرجعيات السياسية والقبلية في اليمن. وعلى درب الشهيد الزبيري قرر الشيخ الأحمر العمل مع رموز الحركة الإسلامية في اليمن, وأسس معهم حزب التجمع اليمني للإصلاح في 13 سبتمبر 1990, وظل رئيساً للحزب وهيئته العليا إلى أن وافاه الأجل في 31 ديسمبر 2007. كان الشيخ الأحمر يميل بفطرته نحو التيار الإسلامي في اليمن, كما أن تأثره بالشهيد الزبيري ساهم إلى حد كبير في تحديد توجهاته السياسية. ونلحظ ميوله للعمل الإسلامي من خلال دعمه المتواصل للقضية الفلسطينية في كل المحافل العربية والدولية, وترؤسه لمؤسسة القدس الدولية المعنية بمناصرة قضية الشعب الفلسطيني سياسياً ومادياً, وهو ماجعل خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يسارع بالمجيء إلى صنعاء فور بلوغه نبأ وفاته, للمشاركة في الصلاة عليه وتشييعه إلى مثواه الأخير.
علاوة على معاركه العسكرية في الدفاع عن ثورة سبتمبر, فقد أسهم الشيخ الأحمر, من خلال ترؤسه للمجلس الوطني (1969) ثم مجلس الشورى (1970), فيما كان يعرف بالجمهورية العربية اليمنية سابقاً, في إعادة صوغ مرحلة سياسية جديدة تمثلت أبرز ملامحها في إعداد دستور دائم للبلاد حافظ على هويتها الوطنية. أما الملاحظة الأبرز في مسيرة الشيخ عبدالله الأحمر السياسية, فهي أنه وعلى الرغم من نشوء خلافات وربما صراعات سياسية بينه وبين رؤساء الجمهورية آنذاك, بدءً بالرئيس السلال ثم الإرياني ثم الحمدي, إلاّ أنه مع ذلك لم يُعرف عنه لجوؤه إلى القوة والعنف في حل خلافاته السياسية معهم, رغم مقدرته على حشد القبائل, مفضلاً عوضاً عن ذلك المضي على درب أستاذه الزبيري في المعارضة السلمية المتمثلة في عقد المؤتمرات الشعبية للضغط على حكومات صنعاء, وإرغامها على تعديل مسارها السياسي. وهو ذات النهج السلمي الذي اختطه الإصلاح لنفسه في مسيرته السياسة الحافلة.
arefabuhatem@hotmail.com