الجزيرة برس- إذا كان لكل عصرٍ رجاله فإن هناك رجالاً لكل العصور، هم أولئك الذين يجيدون العزف على أوتارٍ متعددةٍ.
عندما يمثلون في مجالس السلطان… يتزلفون في حظرته، يقرأون ما يريد أن يقول قبل أن يقول، تراهم فاغرةً أفواههم، بابتسامات الترحيب والتهليل والإعجاب بكل الأقوال والأفعال، يخفضون أجنحتهم من الذل (لا يعصون ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون).
هؤلاء يرتادون هذه المجالس وقد حفظوا كل قصائد المديح التي قيلت في كل حكام العصور المختلفة، إن كانوا من الذين لا يجيدون نظم القصيد؛ إذ تراهم يزينون كل قبيح، ويقبحون كل حسنٍ و(مليح) إن كان في ذلك تجنباً لغضبه، وجلباً لرضاه وعطاياه.
لقد نالنا من هؤلاء الويل والثبور وعظائم الأمور، وفي كل الأزمنة والعصور، وكانوا سبباً في رؤوسٍ بُتِرَتْ، وزعامات ترنحت، ومؤسسات تهالكت، بل وأنظمةٍ تهاوت؛ والسبب دائماً أولئك الذين يعاودون المجيئ إلى مجالس السلطان في كل زمان ومكان، يقدمون له الولاء الماكر، ويصنعون برزخاً بينه وبين قومه، فلا يرى من أمور بلده وهموم شعبه إلا المشهد المزور الذي يرسمه أساتذة النفاق والشقاق كذباً وبهتاناً وتضليلها.
والمشكلة في استحسان الزعماء لهذه الملهاة التي كانت دائماً هي السبب في غضب الشعوب والفتيل الذي فجر البارود، ودمر العروش فتهاوت، ولم تجد من يدافع عنها أو يساندها.. وحتى أولئك الذين كانوا سبباً في إشعال الفتيل، كانوا أول الناجين من ناره.. متوارين بين ركام التهالك، وبقايا ارتطام الأنظمة، ليظهروا مع أول بيان يبشر بسقوطها أبطالاً أو أبواقاً تكشف عورات النظام السابق، يتبرأون منه ومن أعماله و(فساده) ويشرعون في استعراض بطولاتهم وجرأتهم، وهم يصدحون بالحق بين يديه، فيصدهم، ويسدون إليه بالنصح فيردهم.. يقدمون له الآراء فيتجاهلها، ويرسمون له الخطط فيقفز عليها، ولا يعمل بها.
إن قدرة هؤلاء على التلون ونزع الأقنعة وتبادل الأدوار، قد فاق الخيال مع إطلالة ما يسمى بالربيع العربي الذي بدأ مذهلاً ومشروعاً بخروج الشباب إلى الساحات والميادين، كرد فعلٍ على أوضاع داخليةٍ مترديةٍ اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، أفرزتها تراكمات حكم الاستبداد، وممارسات الفساد، وأدت إلى إحباط عميق في أوساط قطاعات عديدةٍ خصوصاً الشباب الذي وجد نفسه لا يرى حاضراً مزدهراً أو مستقبلاً واعداً.
لكن ومع عاصفة تلك الموجات البشرية الشبابية الغاضبة.. أدرك هؤلاء أن البوصلة لم تعد في اتجاه (قبلتهم) التي كانوا يحجون إليها ليل نهار، فبادروا الى إعلان الجهاد ضده.. منهم من يكشف المستور ومنهم من يتبرأ ويصرخ من مظالم رآها بأم عينيه، وشكا قهراً واضطهاداً تحمله طيلة (اضطراره) للبقاء مادحاً متزلفاً طائعاً.. ومنهم من سابق الصوت مهرولاً إلى الميادين والساحات مؤذناً: حي على الجهاد ضد الظلم والفساد.. فأغدق الساحات بالأموال والهبات، ورسم الخطط والمسارات، وفرض منهجه وخطابه في المنصات، حتى نجح في تغيير وضبط الاتجاهات.
كل ذلك أمام ذهول الشباب وعجزهم عن التصدي لهذا الإعصار.. في ظل هذا النقص الهائل في الخبرة وضعف الإمكانات.. فأدركوا عدم قدرتهم عل المرور إلى الغد الذي خرجوا ينشدونه، بالأمس، وهو إسقاط الأنظمة الفاسدة وليس رموزها؛ باعتبار الفساد لم يعد فساد الذمم الشخصية للأفراد بقدر ما هو فساد المؤسسات والقوانين والأنظمة والأفراد أيضاً، لكن العاصفة غيرت الاتجاه بما لا تشتهي السفن، حتى أوصلتها إلى مرساها الذي اختاره بحارة ماهرون يجيدون التعامل مع هيجان البحار والمحيطات.
وهكذا تغير المشهد، وأصبح الذين شرَّعوا بالأمس لشخصنة الدولة، وجعلوا من الحاكم (إلهاً) لا يجوز الشرك به، هم من يرفعون علم الشراكة الوطنية ويُنظِّرون للديمقراطية والحرية ودولة المؤسسات.. بعد أن تمكنوا من الإطاحة بالشباب الذين كانوا هم وقود التغيير الذي أرادوه حريةً وعدالةً اجتماعيةً، فمات من مات منهم وأعيق من أعيق، وأحبط من أحبط، وتحول التغيير من تغيير للواقع إلى تغيير للمواقع، في إطار منظومة صراع المصالح داخل أروقة النظام فتقاسموا الغنائم والمواقع، في ظل خطوط تماس لا يسمح بتجاوزها حفاضاً على التوازن بين شركاء اليوم والأمس معاً.
وهكذا كان المآل المحتوم لثورةٍ لا فلسفة لها، ولا برامج ولا قيادة، ولا بوصلةٍ تحدد مسارها.. وهذه حتميات تاريخ الثورات التي (يخطط لها الدهاة وينفذها المخلصون، ويجني ثمارها المتربصون) الذين يتباهون في ميادين إيقاد شعلة الثورة في غياب أبطالها وشهدائها، في مشهد دراماتيكي عبر عنه الشاعر الجميل أمل دنقل في خيالٍ مشهود حين قال: (آه من في غدٍ سوف يرفع هامته غير من طأطأوا حين أزَّ الرصاص.. ومن سوف يخطب في ساحة الشهداء سوى الجبناء.. ومن سوف يغوي الأرامل ؟!! إلا الذي سيئول إليه خراج المدينة).
أما بعد:
فإن الشك لا يساورني – مطلقاً – أن هذا المشهد حاظرٌ بقوةٍ، أما الرئيس عبد ربه منصور هادي – وهو الذي خبر منعطفات حرجةٍ في تاريخ الثورات، وأحاط بفلسفاتها، في حقبٍ الزخم الثوري في جنوب الوطن وشماله إبان تشطُرِه، أو توحده – لديه من الدروس والعبر التاريخية، بل والدراية الدقيقةَ، بما يصنعه المنافقون الذين يرتادون مجالس السلطان.. كما أنه يعلم علم اليقين: أن المتزلفين الذين اعتادوا على ارتياد مجالس سلفه أو مجالس نجله، هم.. هم من حالوا بينه وبين كل رأيٍ صائبٍ، ومنعوا عنه أشراف القوم وحكمائهم من الذين يُصَوِّبون الأخطاء ويُقَوِّمون الأعوجاج.. وحجبوا عنه رؤية حقائق الأمور، وزينوا الضلالة ومنعوا الهدى عبر تزلفهم المقيت، في حضرته أو عبر الشاشات والمواقع والقصائد والصفحات.. يسبحون بحمده ليل نهار، ينشرون فضائله ويستعرضون إنجازاته، ويندهشون لسجاياه وتسامحه وسعة صدره.
من هؤلاء من ألف فيه الكتب، ومنهم من أصدر له صحفاً خاصة به، ومنهم من لم يتردد في وصفه بالحكيم والملهم، والبار، والأمين، وجميع (الأسماء الحسنى)، بل إن أحدهم مازال صداه صادحاً في أسماع الجميع في بداية ما سمي بالثورةِ طالباً منه الحسم والقتال معاهداً إياه بأنه سيكون معه مقاتلاً صنديداً مستعرضاً الآية الكريمة(اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون)، ثم تولى يوم الزحف مسفراً مدبراً.. وهناك آخر أطل من شاشة السعيدة يتبتل في محراب حكمته ذاكراً شاكراً له أنه عندما عينه في وظيفته التي كانت مبتغاه في الحياة لم يطلب منه الاستقالة من حزبه (الإصلاح).
إن هؤلاء الذين قلبوا ظهر المجن لسلفك.. قد بدأوا بالتسلل إلى مجلسك ومراكز قرارك، وبدأوا في (نسخ) صفات السلف لنقلها إلى الخلف، ومن على نفس الصفحات والشاشات، ولا أعتقد أنهم بعيدون عن بصرك وبصيرتك، ولا يمكن أن يكونوا محط ثقتك، ومصدر مشورتك، أو آليةً في إدارتك.
(إنهم رجالٌ لكل العصور.. ويستحقون جائزة نوبل للنفاق).