بعد أن نالت الحكومة اليمنية الجديدة، برئاسة خالد بحاح، ثقة مجلس النواب، الأطول عمرا في تاريخ المجالس النيابية أو البرلمانات العربية والعالمية، وبعد أن خضع برنامجها، في جزء منه، لنقاشات ساخرة وحامية تحت قبة البرلمان، لا بد للحكومة أن تفكر جيدا في آلام الناس ومعاناتهم وظروفهم المعيشية، وتعمل بشيء من الجدية للقضاء على الأوجاع التي تمس الكرامة والسيادة الوطنية.
فالمهم هنا ليس في منح الحكومة الثقة، ولا في نوعية برنامجها المقدم للبرلمان، ولا في النقاشات التي دارت حوله، فتلك إجراءات روتينية تتكرر عند تشكيل الحكومات وتقديم برامجها، ولكن المهم هو ما الذي في إمكان الحكومة فعله بعد نيلها الثقة.. في ظل ظروف معقدة ومأساوية تعيشها البلاد؟!
الحكومة التزمت في برنامجها بتحقيق «معجزات» كبيرة، تضمنت:
– توفير الأمن والاستقرار لكل أبناء الشعب!!
– إقامة مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية في كافة «الأقاليم»!! مع أن البلاد لم تُقسم بعد إلى أقاليم، ولا تزال، وفقا للدستور السائد، تعمل بنظام المحافظات.
– مكافحة الإرهاب، ومواجهة مخاطر «القاعدة» أينما وجدت!!
– مكافحة التهريب بكافة أنواعه… إلخ.
عناوين كبيرة وبارزة أعلنت الحكومة الالتزام بتنفيذها، لكنها بالتالي لم تبين كيف ستنفذها، ولا نوعية الآليات التي ستستخدمها للتنفيذ، وإنما اكتفت بعبارات فضفاضة عامة، (ربما) لم يلتفت لها رئيس الوزراء، كما لم يتنبه لها مجلس النواب بحكم العادة التي اتبعها خلال 13 عاما من عمره المديد، إن شاء الله.
كان بإمكان الحكومة، وقد ضمت نخبة من الناشطين والناشطات الذين خبروا العمل مع المنظمات الدولية في إعداد البرامج العملية والمباشرة، أن تكتفي بتقديم «وثيقة السلم والشراكة» برنامجا لعملها، فهي وثيقة عملية وجادة، وفي إطارها يمكن التركيز فقط على 4 نقاط مهمة، تتمثل في:
1- استعادة هيبة الدولة وعودة الجيش والأمن للعب دور وطني في المؤسسة والشارع بعيدا عن الحديث عن «بناء الجيش على أسس وطنية… إلخ»، لأن الموضوع بحاجة – على الأقل – إلى مال ووقت.
2- تأمين توفير الخدمات الضرورية والأساسية للمواطنين، من كهرباء، ومياه، وغاز، وبنزين.
3- الاستفتاء على الدستور، والتهيئة للاستحقاقات الانتخابية (برلمانية ورئاسية).
4- وقف نزيف الفساد في أجهزة ومؤسسات الدولة، فهو جوهر المشكلة اليمنية.
هذا ما كنت أتمناه لحكومة رئيس الوزراء الجديد خالد بحاح، ولم أكن أتمنى له، وهو لا يزال على قدر من التحمس والحيوية، أن يقدم برنامج حكومته محشوا بأماني ووعود وتعهدات قاطعة مانعة بتحقيق إنجازات لن ترى النور.. لأن الواقع الذي تعيشه البلاد، والذي تشكلت في ظله حكومته، أسوأ حتى من الواقع الذي تشكلت في ظله حكومة باسندوة. فعندما تشكلت حكومة باسندوة كان ظل الدولة لا يزال موجودا، والجيش والأمن كانا لا يزالان ثابتين في مواقعهما، وكانت «القاعدة» (أنصار الشريعة) لا تزال بعيدة عن صنعاء وذمار والبيضاء، ولم تكن تتحرك وتفجر بحرية في شوارع العاصمة وأحيائها، كما أن الحوثيين (أنصار الله) لم يكونوا قد سيطروا على عمران ولا على صنعاء والحديدة، ولم تكن لهم بعد نقاط تفتيش في شوارع العاصمة، ولم يكونوا يتولون حراسة وحماية رئاسة الوزراء ومؤسسات الدولة، أما الآن، فقد أصبحت «الدولة» – إن جاز التعبير – خارج اللعبة.
وما نعنيه هنا، هو أن المهمة ستكون في غاية الصعوبة أمام الحكومة، فالسلاح يسيطر في الشارع والمؤسسة، والحكومة نفسها محكومة بقوانين وأنظمة ورغبات وأهواء سياسية وحزبية لا علاقة لها بقوانين وأنظمة الدولة. فإذا كانت مواقع المنشآت النفطية والغازية، ومحطات توليد الطاقة الكهربية، والوزارات والمؤسسات التي يدير رئيس الوزراء والوزراء والمحافظون أعمالهم منها تحت قبضة وسيطرة الميليشيات المسلحة (حوثية، وحزبية، وحراكية)، بينما المؤسستان العسكرية والأمنية في حالة تفكك وانهيار تام.. فكيف يمكن للحكومة أن تعمل على تنفيذ هذه التعهدات العملاقة وهي محاصرة بين قوى ورغبات مجنونة لا ترى الحل إلا عبر المفخخات، وفوهات البنادق، ونصب الكمائن، وتفجير وذبح المواطنين؟!
يحلو لبعض المحللين «السياسيين» أو «الاستراتيجيين» الذين يظهرون على القنوات الفضائية وصف أي حكومة جديدة بأنها حكومة «استثنائية»، فحكومة بحاح في تحليلاتهم استثنائية – ولا نعترض على ذلك – لأنها أتت بعد توقيع وثيقة السلم والشراكة مع «أنصار الله – الحوثيين»، وحكومة باسندوة كانت استثنائية أيضا، لأنها جاءت نتيجة أزمة 2011 ومبادرة خليجية ورعاة دوليين، ومن قبلها كانت حكومات «مجور، وباجمال، والإرياني، وفرج بن غانم وعبد الغني – رحمهما الله – ومن قبلها حكومة العطاس»، كلها حكومات استثنائية، لأنها جاءت نتيجة أزمات، ولأن بلدنا – للأسف – استثنائي في كل شيء، فحكوماته تخلق له الأزمات إن لم تكن موجودة، وهذا هو حال اليمن مع حكوماته السابقة واللاحقة، للأسف.
ومشكلة هذه الحكومات «الاستثنائية» المتعاقبة، أنها تتشكل وتقدم برامجها وتنال الثقة من البرلمان وتقضي فترتها المقررة وتغادر وهي لا تدري كيف دخلت ولماذا خرجت؛ ذلك لأن أعضاءها يجدون أنفسهم منذ اللحظة الأولى لجلوسهم على كراسي وزاراتهم غارقين في قضايا ثانوية لا علاقة لها بالمهام التي اشتملت عليها البرامج التي نالوا بموجبها الثقة، ولا علاقة للوطن بما يمارسونه من فوضى وفساد.
وهنا، لن نتشاءم، بل سنترك للأمل فرصة، ونتمنى معه لحكومة الأستاذ بحاح أن تخرج وتتمرد على هذه التوصيفات، وتتميز بوصفها حكومة كفاءات يجب أن تجسد هذا المفهوم على واقع الحياة العملية، وتبحث، بل وتنقب، عن الكفاءات الوطنية، وليس الكفاءات الحزبية أو القروية والمناطقية والجهوية، وبعيدا عن المحسوبيات والصداقات، وتعمل عبر وزاراتها على الكف عن ممارسة الفساد وإقصاء الفاسدين وتجاوز اعتبارات القرابة والولاءات الشخصية والحزبية الضيقة، حتى تنأى بنفسها عن الوقوع فيما وقعت فيه الحكومات السابقة، وتتمثل قيم المرحوم المهندس فرج بن غانم خلال رئاسته الحكومة (1997 – 1998) الذي جسد مفهوم الكفاءة والنزاهة، ومارسها في أرقى وأجمل صورها، فكان ولا يزال هو القدوة التي يجب أن يحتذي بها الشرفاء والوطنيون من رجال الدولة في اليمن.
* الشرق الأوسط.