لن يستغرب أي متابع لما يجري في مصر وخصوصا في الأيام الأخيرة وهو يرى كيف بدت فلول النظام مع من تصف نفسها بالنخب العلمانية من ليبراليين و يساريين في صف واحد و موقف واحد، و يصدر عنهما خطاب واحد في مضامينه ومفرداته، و ذلك أن مثل هذا التحالف ليس جديدا على المشهد السياسي في مصر، لأن مؤشراته ومظاهره كانت تتجلى بوضوح في مختلف المراحل والمحطات التي كانت تمر بها العزيزة مصر، و المؤكد أن أبرز مقومات هذا التحالف وجود قاسم مشترك بين الطرفين (نظام مبارك سابقا و فلوله حاليا من جهة، و نخب العلمانية من جهة ثانية)، يتمثل بالعداء السافر والحقد الدفين على التيار الإسلامي الذي كشفت ثورة يناير عن ثقله الشعبي وإمكاناته وقدراته في مواجهة قوة نظام مبارك وأجهزته القمعية، كما أثبتت الانتخابات البرلمانية والرئاسية عما يتمتع به من ثقة لدى ملايين الناخبين.
وحين أوشكت اللجنة التأسيسية على الانتهاء من إعداد مشروع الدستور بعد ستة أشهر من العمل التوافقي الذي لم يستثن أحدا، وأدركت بقايا الفلول أن مرحلة جديدة تلي الاستفتاء على الدستور لن تكون في صالحها لما ينتظرها من ملفات وقضايا سواء ما يتعلق منها بقتل الثوار أو قضايا الكسب غير المشروع بدأت تلوح بالإجهاز على ما تبقى من مؤسسات دستورية قائمة في البلد بعد حل مجلس الشعب، وذلك من خلال التهديد بحل التأسيسية و مجلس الشورى بضربة واحدة لتبقى مؤسسة الرئاسة وحيدة في مواجهة أوضاع متردية أمنيا و معيشيا مع أنها في طريقها للتحسن، حينها سارع الرئيس لتأمين الفترة المتبقية من أي حماقة يمكن أن ترتكبها الدستورية تجاه التأسيسية أو مجلس الشورى، و هو الإجراء الذي أيده ملايين المصريين من خلال المسيرات و المظاهرات التي خرجت في القاهرة و الاسكندرية و الصعيد و عدد من المحافظات و المدن المصرية السبت الماضي، و مع ذلك انساقت تلك النخب في الزفة بعضها عن علم و دراية و بعضها الآخر عن جهل و تضليل تمارسه وسائل إعلام الفلول و حلفائها في داخل مصر و خارجها،
و كان بمقدور تلك النخب – حسب ما تصف نفسها- أن تتخذ موقفا مستقلا عن الفلول الذين يعرفونهم جيدا، حتى لو كان هذا الموقف معارضا بطبيعة الحال للإعلان الدستوري و الاستفتاء و الدستور، لكن أن تضم نفسها إلى الجوقة ذاتها التي يقودها أحمد شفيق و أمثاله، معتقدين أنهم بذلك ينتصرون للقضاء و استقلاله، و لم يشفع أمامهم وقوف غالبية قضاة مصر مع الاستفتاء على الدستور باعتباره واجبا وطنيا على الجميع القيام به، باستثناء الخطاب المتشنج لأحمد الزند الذي يقود نادي القضاة ذي الاختصاصات الفنية فقط وفقا لتصريحه هو الذي أطلقه في أواخر عهد مبارك.
و إذا استعدنا تاريخ العلاقة التي ربطت طويلا وإن بأشكال مختلفة بين من تطلق على نفسها النخبة و بين نظام مبارك سنجد أن الأخير استخدم معهم العصا والجزرة أو سيف المعز وذهبه، ولذلك لوحظ أن بعضهم كان يتربع على عرش مؤسسات رسمية حتى وإن كانت بعيدة عن التأثير لكنها شكلت ملاذا للطرفين اللذين جمعهما العداء للإسلاميين من إخوان وسلفيين، و كذلك المصائب تجمعن المصابين كما يقال.
لم يكن أحد يتصور أن يصل البرادعي للحد الذي يجعله يطالب بحماية دولية تجاه ما يصفها الأغلبية الإسلامية التي قال إنها لا تحب الموسيقى كما يحبها هو وقنوات شركائه المليئة بالرقص الماجن والعري الفاحش، كما لم يتورع عن التحريض في صحف خارجية على زملائه في التأسيسية لأنهم حسب قوله لا يؤمنون بمحرقة اليهود التي تعرف بـ”الهولوكست”.
كما لم يكن متوقعا من عمرو موسى أن يصل به الفجور في الخصومة مع الإخوان إلى حد القول أن الرئيس مرسي لم يكن هو الفائز بالانتخابات، ما يعني أن القضاء مارس التزوير بحق صديقه الحميم احمد شفيق!
المعروف أن اللجنة التأسيسية ظلت على مدى جلساتها وعلى امتداد خمسة أشهر عدة تعد الدستور مادة مادة بتوافق وحرص على عدم تجاوز أي صوت معارض أو معترض إلى حد أن غالبية المواد أخذت من النقاش أكثر من ثلاثمائة ساعة مع أنها مجرد عبارة أو جملة واحدة فقط في كثير من الأحيان.
و لما رأى طرفا التحالف القديم الجديد أن الخطوة قد حانت للإجهاز على ما تبقى من مؤسسات في البلد قاموا بسحب ممثليهم من اللجنة بعد ما أنجزت أكثر من تسعين بالمائة من مشروع الدستور وأثبت محاضر الجلسات موافقتهم، ومع ذلك فلم يفلحوا في إقناع سوى أقلية ممن انهاروا أمام الضغوط حسبما ذكروا لزملائهم عندما طالبوا بعودتهم لاستكمال المشروع الذي لم يتبق منه سوى الأحكام الختامية فقط.
لم يستطع الفلول و حلفاؤهم أن يقنعوا المصريين رغم ما قاموا و يقومون به أنهم لم يشاركوا في إعداد الدستور، كما لم يعد أمامهم سوى لطم الخدود و التباكي تارة على القضاء وتارة على الثورة وتارة على مقر المحكمة الذي شهد اعتصاما رمزيا من قبل محتجين على دخولها طرفا في الصراع السياسي، بينما لم ينبس هؤلاء ببنت شفة وهم يرون أنصارهم وهم يقتحمون مقرات الأحزاب والمنشآت العامة والخاصة، و هو المنطق الغريب الذي يجعل الشعب المصري أكثر ذكاء من أدعياء الثورة والديمقراطية مهما ارتدوا من عباءات ورددوا من عبارات.