لن تدوم حروب الإقليم إلى الأبد. ستأتي ساعة يجلس فيها المتحاربون والمتنافسون إلى طاولة للبحث في شروط الأمن والاستقرار. عندها سيطالب كل طرف بالاعتراف له بدوره وموقعه ومداه الحيوي استناداً إلى الأوراق التي جمعها خلال فترة المبارزة في الإقليم. في هذا السياق يمكن تفسير مجموعة أحداث ومواقف. اندفاع الحوثيين وداعميهم حتى باب المندب. انطلاق عملية «عاصفة الحزم». خطوات الرئيس عبدالفتاح السيسي. وتصريحات الرئيس رجب طيب اردوغان على رغم زيارته المقررة لإيران غداً. وكذلك ما يحصل في سورية.
ولنفترض أن تلك الطاولة عقدت اليوم. باستطاعة المفاوض الإيراني القول صراحة أو مداورة إن بلاده موجودة على حدود السعودية عبر الأراضي العراقية واليمنية. وأنها موجودة على حدود تركيا ليس فقط عبر الحدود المشتركة بل أيضاً عبر الأراضي العراقية والسورية وقرب البوابة الأردنية. وأنها موجودة على حدود الأمن والمصالح المصرية عبر البحر الأحمر ومضيق باب المندب وعلى رغم فرار السودان من حلف الممانعة. وأنها موجودة على حدود إسرائيل عبر جنوب لبنان وبعض الجولان السوري.
يستطيع المفاوض الإيراني أيضاً أن يقول أو يلمح إلى أن بلاده أقوى من أميركا في العراق. وأقوى من روسيا في سورية. وأقوى من العرب في لبنان. هذا فضلاً عن اليمن.
منذ بدايات العقد الماضي، أطلقت إيران هجومين متوازيين. الأول في الملف النووي والثاني لانتزاع الموقع الأول في الإقليم، خصوصاً بعد إسقاط نظام صدام حسين. في الهجوم الثاني وتحت لافتة المقاومة والممانعة قامت بإضعاف الأهمية الاستراتيجية للمنافسين المحتملين في المنطقة. منعت خروج الحلقة اللبنانية من «هلال الممانعة» بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. أطلقت حرب 2006 في لبنان وأسقطت بعد سنوات حكومة الرئيس سعد الحريري. منعت محاولة إعادة التوازن في العراق ومنعت الرئيس إياد علاوي من تولي رئاسة الوزراء. وفي بيروت وبغداد كانت الرسائل موجهة إلى السعودية وتركيا تماماً كما حدث حين منعت لاحقاً سقوط الحلقة السورية.
حققت إيران نجاحات في الهجوم الإقليمي. انتزعت صفة اللاعب الأول في بغداد ودمشق وبيروت مستفيدة من الانسحاب الأميركي ومحدودية الدور الروسي. نجحت أيضاً في سعيها إلى لعب دور المرجع السياسي والديني لجزء كبير من الشيعة العرب.
في ظل الفصل الأخير من المفاوضات النووية، أطلقت إيران الفصل الأخطر من هجومها الإقليمي وتمثل في الانقلاب الحوثي ودفعه إلى حدود عدن وباب المندب. ولعلها راهنت على ثلاثة أمور: الأول عدم رغبة باراك أوباما في اتخاذ أي موقف صارم يؤدي إلى تعطيل المفاوضات. والثاني، توقعتْ أن لا يصل غضب السعودية إلى حد اتخاذ قرار الحرب. والثالث أن لا تلتقي إرادة مصر وتركيا مع إرادة السعودية.
أي قراءة هادئة للمعركة الدائرة في الإقليم تفيد بأنه لم يكن أمام السعودية غير ما فعلت. لا تستطيع قبول سقوط باب المندب في يد الحوثيين وإيران، ذلك أن هذا الممر حيوي لتدفق النفط وسلع أخرى. ولا تستطيع التعايش مع يمن يقيم فيه زعيم ميليشيا إيراني الهوى هو عبدالملك الحوثي على ترسانة صاروخية يمكن أن تشكل ورقة تهديد دائم أو ابتزاز مفتوح.
واقع الأمر أن إيران اصطدمت في محاولتها لإعادة صياغة موازين القوى في الإقليم بالثقل السعودي. ثقل السعودية الإسلامي والسياسي والاقتصادي وثقل علاقاتها الدولية. وحين قررت السعودية وضع قدراتها العسكرية في تصرف هذا الثقل ولد سريعاً تحالف لجبه الحلقة اليمنية من الانقلاب الكبير. لم تقبل السعودية محاولة التسلل إلى خاصرتها البحرينية ولم تقبل أيضاً محاولة التطويق عبر باب المندب.
إنها معركة الإقليم. من المبكر الجزم بانعكاسات التفاهم النووي على مجرياتها. أثبتت التجارب أن الإدارة الدولية للإقليم غائبة أو هزيلة أو تعيش مرحلة انتقالية. وأن باستطاعة اللاعبين الإقليميين وضع الكبار أمام وقائع جديدة. لهذا اتهم اردوغان إيران بالسعي إلى «الهيمنة». ولهذا قال السيسي لجنرالاته إن باب المندب يعني الأمن القومي العربي. ومن هنا يمكن النظر إلى «عاصفة الحزم» كمحاولة لإعادة التوازن الإقليمي ولجم الهجوم الإيراني الكبير. فحروب الشرق الأوسط الرهيب لن تدوم إلى الأبد. ولا بد من امتلاك أوراق فعلية للمشاركة في رسم ملامح النظام الإقليمي الجديد.